فصل: ‏فصل‏: الرد على من قال بعدم كفر هاتين الأمتين

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى **


*3*‏ (‏فصل‏)‏ إقامة الحجة على أهل الكتاب

وأما اليهود، وعباد الصليب والصور والمزوقة في الحيطان، وشاتموا خالقهم ورازقهم أقبح شتم، وجاعلوه مصفعة اليهود، وتواطؤهم على ذلك، وعلى ضروب المستحيلات وأنواع الأباطيل‏.‏

فلا إله إلا الله الذي أبرز للوجود مثل هذه الأمة ‏.‏‏.‏‏.‏ وخلى بينهم وبين سبه وشتمه، وتكذيب عبده ورسوله، ومعاداة حزبه وأوليائه، وموالاة الشيطان، والتعوض بعبادة الصور والصلبان عن عبادة الرحمن الرحيم‏.‏

وعن قول ‏"‏الله أكبر‏"‏ بالتصليب على الوجه، وعن قراءة ‏(‏الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين‏)‏ بـ ‏(‏اللهم أعطنا خبزنا الملائم لنا‏)‏، وعن السجود للواحد القهار، بالسجود للصور المدهونة في الحائط بالأحمر والأصفر واللازورد‏.‏

هذا بعض شأن هاتين الأمتين اللتين عندهما آثار النبوة والكتاب، فما الظن بسائر الأمم الذين ليس عندهم من النبوة والكتاب حس ولا خبر ولا عين ولا أثر‏.‏

*2* قول السائل‏:‏ هل أتى ابن سلام‏.‏‏.‏‏.‏ بالنسخ الصحيحة‏؟‏

*3*‏(‏فصل‏)‏ الرد على من طالب بالنسخ الصحيحة

قال السائل‏:‏ إن قلتم أن عبد الله بن سلام، وكعب الأحبار، ونحوهما، شهدوا لنا بذلك من كتبهم، فهلا أتى ابن سلام وأصحابه الذين أسلموا بالنسخ التي لهم كي تكون شاهدة علينا، والجواب من وجوه‏:‏

*4*‏(‏أحدها‏)‏

أن شواهد النبوة وآياتها لا تنحصر فيما عند أهل الكتاب من نعت النبي صلى الله عليه وسلم وصفته، بل آياتها وشواهدها متنوعة متعددة جدا، ونعته وصفته في الكتب المتقدمة فرد من أفرادها، وجمهور أهل الأرض لم يكن إسلامهم عن ‏(‏ص 116‏)‏ الشواهد والأخبار التي في كتبهم، وأكثرهم لا يعلمونها ولا سمعوا بها‏.‏

بل أسلموا للشواهد التي عاينوها، والآيات التي شاهدوها، وجاءت تلك الشواهد التي عند أهل الكتاب مقوية عاضدة من باب تقوية البينة، وقد تم النصاب بدونها‏.‏

فهؤلاء العرب من أولهم إلى آخرهم لم يتوقف إسلامهم على معرفة ما عند أهل الكتاب من الشواهد، وإن كان ذلك قد بلغ بعضهم وسمعه منهم قبل النبوة وبعدها، كما كان الأنصار يسمعون من اليهود صفة النبي صلى الله عليه وسلم ونعته، ومخرجه‏.‏

فلما عاينوه وأبصروه عرفوه بالنعت الذي أخبرهم به اليهود فسبقوهم إليه، فشرق أعداء الله بريقهم وغصوا بمائهم‏.‏

وقالوا‏:‏ ليس هو الذي كنا نعدهم به، فالعلم بنبوة محمد، والمسيح، وموسى صلوات الله وسلامه عليهم، لا يتوقف على العلم بأن من قبلهم أخبر بهم، وبشر بنبوتهم، بل طرق العلم بها متعددة فإذا عرفت نبوة النبي صلى الله عليه وسلم بطريق من الطرق ثبتت نبوته، ووجب اتباعه، وإن لم يكن من قبله بشر به،

فإذا علمت نبوته بما قام عليها من البراهين‏:‏ فإما أن يكون تبشير من قبله به لازما لنبوته، وإما أن لا يكون لازما، فإن لم يكن لازما لم يجب وقوعه، ولا يتوقف تصديق النبي عليه بل يجب تصديقه بدونه، وإن كان لازما علم قطعا أنه قد وقع، وعدم نقله إلينا لا يدل على عدم وقوعه إذ لا يلزم من وجود الشيء نقله العام، ولا الخاص‏.‏

وليس كلما أخبر به موسى والمسيح، وغيرهما من الأنبياء المتقدمين وصل إلينا وهذا مما يعلم، بالاضطرار فلو قدر أن البشارة بنبوته صلى الله عليه وسلم ليست في الكتب الموجودة بأيديكم لم يلزم أن لا يكون المسيح وغيره بشروا به، بل قد يبشرون ولا ينقل‏.‏

ويمكن أن يكون في كتب غير هذه المشهورة المتداولة بينكم، فلم يزل عند كل أمة كتب لا يطلع عليها إلا بعض خاصتهم فضلا عن جميع عامتهم، ويمكن أنه كان في بعضها فأزيل منه وبدل ونسخت النسخ من هذه التي قد غيرت، واشتهرت بحيث لا يعرف غيرها، وأخفي أمر تلك النسخ الأولى‏.‏

وهذا كله ممكن، لا سيما من الأمة التي تواطأت على تبديل دين نبيها وشريعته، هذه كله على تقدير عدم البشارة به في شيء من كتبهم أصلا‏.‏

ونحن قد ذكرنا من البشارات به التي في كتبهم ما لا يمكن لمن له أدنى معرفة منهم جحده والمكابرة فيه، وإن أمكنهم المغالطة بالتأويل عند رعاعهم وجهالهم‏.‏

*4* الوجه الثاني

أن عبد الله بن سلام قد قابل اليهود، وأوقفهم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن ذكره، ونعته، وصفته في كتبهم، وأنهم يعلمون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد شهدوا بأنه أعلمهم، وابن أعلمهم، وخيرهم وابن خيرهم، فلم يضر قولهم بعد ذلك‏:‏ أنه شرهم، وابن شرهم، وجاهلهم، وابن جاهلهم‏.‏

كما إذا شهد على رجل شاهد عند الحاكم، فسأله عنه فعدله، وقال‏:‏ إنه مقبول الشهادة عدل، رضي لا يشهد إلا بالحق، وشهادته ‏(‏ص 117‏)‏ جائزة علي، فلما أدى الشهادة قال‏:‏ إنه كاذب شاهد زور، ومعلوم أن هذا لا يقدح في شهادته‏.‏

وأما كعب الأحبار فقد ملأ الدنيا من الأخبار بما في النبوات المتقدمة من البشارة به، وصرح بها بين أظهر المسلمين، واليهود، والنصارى، وأذن بها على رؤوس الملأ، وصدقه مسلموا أهل الكتاب عليها، وأقروه على ما أخبر به، وأنه كان أوسعهم علما بما في كتب الأنبياء‏.‏

وقد كان الصحابة يمتحنون ما ينقله، ويزنونه بما يعرفون صحته، فيعلمون أصدقه، وشهدوا له بأنه أصدق الذين يحكون لهم عن أهل الكتاب، أو من أصدقهم‏.‏

ونحن اليوم ننوب عن عبد الله بن سلام، وقد أوجدنا كم هذه البشارات في كتبكم، فهي شاهدة لنا عليكم، والكتب بأيديكم فأتوا بها فاتلوها إن كنتم صادقين، وعندنا ممن وفقه الله للإسلام منكم من يواقفكم، ويقابلكم، ويحاققكم عليها، وإلا فاشهدوا على أنفسكم بما شهد الله، وملائكته، وأنبيائه، ورسله، وعباده المؤمنون به، عليكم من الكفر والتكذيب، والجحد للحق، ومعاداة الله ورسوله‏.‏

*4* ‏(‏الوجه الثالث‏)‏

أنه لو أتاكم عبد الله بن سلام بكل نسخة متضمنة لغاية البيان والصراحة، لكان في بهتكم، وعنادكم، وكذبكم، ما يدفع في وجوهها ويحرفها أنواع التحريف ما وجد إليه سبيلا، فإذا جاءكم بما لا قبل لكم به، قلتم‏:‏ ليس هو، ولم يأت بعد، وقلتم‏:‏ نحن لا نفارق حكم التوراة، ولا نتبع نبي الأميين‏.‏

وقد صرح أسلافكم الذين شاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعاينوه، أنه رسول حقا، وأنه المبشر به، الموعود به، على ألسنة الأنبياء المتقدمين، وقال من قال منهم في وجهه‏:‏ نشهد أنك نبي فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ما يمنعك من اتباعي‏)‏‏)‏‏؟‏ قال‏:‏ إنا نخاف أن يقتلنا يهود‏.‏

وقد قال تعالى‏:‏ ‏(‏إن الذي حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون، ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم‏)‏، وقد جاءكم بآيات هي أعظم من بشارات الأنبياء به وأظهر، بحيث أن كل آية منها يصلح أن يؤمن على مثلها البشر، فما زادكم ذلك إلا نفورا، وتكذيبا، وإباء لقبول الحق، فلو نزل الله إليكم ملائكته، وكلمكم الموتى، وشهد له بالنبوة كل رطب ويابس، لغلبت عليكم الشقوة وصرتم إلى ما سبق لكم في أم الكتاب‏.‏

وقد رأى من كان أعقل منكم وأبعد من الحسد من آيات الأنبياء ما رأوا، وما زادهم ذلك إلا تكذيبا وعنادا، فأسلافكم وقدوتكم في تكذيب الأنبياء من الأمم، لا يحصيهم إلا الله حتى كأنكم تواصيتم بذلك أوصى به الأول للآخر، واقتدى فيه الآخر بالأول قال تعالى‏:‏

‏(‏كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به بل هم قوم طاغون‏)‏، وهبنا ضربنا عن إخبار الأنبياء المتقدمين به صفحا، أفليس في الآيات والبراهين التي ظهرت ‏(‏ص 118‏)‏ على يديه ما يشهد بصحة نبوته‏؟‏ ‏!‏

وسنذكر منها بعد الفراغ من الأجوبة طرفاً يقطع المعذرة، ويقيم الحجة والله المستعان‏.‏

*3* ‏(‏فصل‏)‏ الرد على من قال بعدم كفر هاتين الأمتين

قال السائل‏:‏‏(‏‏(‏إنكم نسبتم الأمتين العظيمتين المذكورتين إلى اختيار الكفر على الإيمان للغرض المذكور، فابن سلام وأصحابه أولى بذلك الغرض، لأنهم قليلون جداً، وأضداده كثيرون لا يحصيهم عدد‏)‏‏)‏ والجواب من وجوه‏:‏

*4* ‏(‏أحدها‏)‏

إنا قد بينا أن جمهور هاتين الأمتين المذكورتين آمن به، وصدقه، وقد كانوا ملء الأرض وهذه الشام ومصر وما جاورهما، واتصل بهما من أعمالها، والجزيرة والموصل وأعمالهما، وأكثر بلاد المغرب، وكثير من بلاد المشرق، كانوا كلهم نصارى‏.‏

فأصبحت هذه البلاد كلها مسلمين، فالمتخلف من هاتين الأمتين عن الإيمان به أقل القليل بالإضافة إلى من آمن به وصدقه، وهؤلاء عباد الأوثان كلهم أطبقوا على الإسلام، إلا من كان منهم في أطراف الأرض بحيث لم تصل إليه الدعوة، وهذه أمة المجوس توازي هاتين الأمتين كثرة، وشوكة، وعددا، دخلوا في دينه، وبقي من بقي منهم كما بقيتم أنتم تحت الذلة والجزية‏.‏

*4*‏(‏الثاني‏)‏

إنا قد بينا أن الغرض الحامل لهم على الكفر ليس هو مجرد المأكلة ولا رياسة فقط، وإن كان من جملة الأغراض؛ بل منهم من حمله ذلك‏.‏

ومنهم من حله الحسد‏.‏

ومنهم من حمله الكبر‏.‏

ومنهم من حمله الهوى‏.‏

ومنهم من حمله محبة الآباء، والأسلاف وحسن الظن بهم‏.‏

ومنهم من حمله ألفه للدين الذي نشأ عليه، وجبل بطبعه، فصار انتقاله عنه كمفارقة الإنسان ما طبع عليه‏.‏

وأنت ترى هذه السبب كيف هو الغالب المستولي على أكثر بني آدم في إثارهم ما اعتادوه من المطاعم، والمشارب، والملابس، والمساكن، والديانات، على ما هو خير منه وأوفق بكثير‏.‏

منهم من حمله التقليد والجهل، وهم الأتباع الذين ليس لهم علم‏.‏

ومنهم من حمله الخوف من فوات محبوب أو حصول مرهوب، فلم تنسب هاتين الأمتين إلى الغرض المذكور وحده‏.‏

*4*‏(‏الثالث‏)‏

إنا قد بينا أن الأمم الذين كانوا قبلهم كانوا أكثر عددا، وأغزر عقولا منهم، وكلهم اختاروا العمى على الهدى، والكفر على الإيمان بعد البصيرة، فلهاتين الأمتين سلف كثير وهم أكثر الخلق‏.‏

*4*‏(‏الرابع‏)‏

أن عبد الله بن سلام، وذويه، إنما أسلموا في وقت شدة من الأمر، وقلة من المسلمين وضعف، وحاجة، وأهل الأرض مطبقون على عداوتهم، واليهود والمشركين هم أهل الشوكة، والعدة، والحلقة، والسلاح، ورسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه إذ ذاك قد أووا إلى المدينة، وأعداؤهم يتطلبونهم في كل وجه، وقد بذلوا الرغائب لمن جاءهم بهم‏.‏

فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصاحبه، وخادمهما، فاستخفوا ‏(‏ص 119‏)‏ ثلاثا في غار تحت الأرض‏.‏

ثم خرجوا بعد ثلاث على غير الطريق إلى أن قدموا المدينة، والشوكة، والعدد، والعدة فيها لليهود والمشركين‏.‏

فأسلم عبد الله بن سلام حين مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، لما رأى أعلام النبوة التي كان يعرفها وشاهدها فيه، وترك الأغراض التي منعت المغضوب عليهم من الإسلام، من الرياسة، والمال، والجاه بينهم، وقد شهدوا له كلهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رئيسهم، وخيرهم، وسيدهم، فعلم أنهم إن علموا بإسلامه أخرجوه من تلك الرياسة والسيادة، فأحب أن يعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال‏:‏

أدخلني بعض بيوتك، وسلهم عني، ففعل، وسألهم عنه، فأخبروه أنه‏:‏ سيدهم، ورئيسهم، وعالمهم، فخرج عليهم وذكرهم، وأوقفهم على أنهم يعلمون أنه رسول الله، وقابلهم بذلك، فسبوه، وقدحوا فيه، وأنكروا رياسته، وسيادته، وعلمه‏.‏

فلو كان عبد الله بن سلام ممن يؤثر عرض الدنيا، والرياسة، لفعل كما فعله اليهود، وهكذا شأن من أسلم من اليهود حينئذ، وأما المتخلفون فكثير منهم صرح بغرضه لخاصته وعامته، وقال‏:‏

إن هؤلاء القوم قد عظمونا ورأسونا، ومولونا فلو اتبعناه لنزعوا ذلك كله منا، وهذا قد رأيناه نحن في زماننا، وشاهدناه عيانا، ولقد ناظرت بعض علماء النصارى معظم يوم، فلما تبين له الحق بهت، فقلت له وأنا وهو خاليين‏:‏ ما يمنعك الآن من اتباع الحق‏؟‏

فقال لي‏:‏ إذا قدمت على هؤلاء الحمير - هكذا لفظه - فرشوا لنا الشقاق تحت حوافر دابتي، وحكموني في أموالهم، ونسائهم، ولم يعصموني فيما آمرهم به، وأنا لا أعرف صنعه، ولا أحفظ قرآنا، ولا نحوا، ولا فقها، فلو أسلمت لدرت في الأسواق أتكفف الناس، فمن الذي يطيب نفسا بهذا‏؟‏ ‏!‏

فقلت‏:‏ هذا لا يكون، وكيف تظن بالله أنك إذا آثرت رضاه على هواك يخزيك، ويذلك، ويحوجك‏؟‏ ‏!‏

ولو فرضنا أن ذلك أصابك فما ظفرت به من الحق، والنجاة من النار، ومن سخط الله وغضبه، فيه أتم العوض عما فاتك‏!‏ فقال‏:‏ حتى يأذن الله، فقلت‏:‏ القدر لا يحتج به، ولو كان القدر حجة لكان حجة لليهود على تكذيب المسيح، وحجة للمشركين على تكذيب الرسل، ولا سيما أنتم تكذبون بالقدر، فكيف تحتج به‏؟‏ ‏!‏ فقال‏:‏ دعنا الآن من هذا وأمسك‏.‏

*4*‏(‏الخامس‏)‏

أن جوابك في نفس سؤالك، فإنك اعترفت أن عبد الله بن سلام وذويه كانوا قليلين جدا، وأضدادهم لا يحصون كثرة، ومعلوم أن الغرض الداعي لموافقة الجمهور الذين لا يحصون كثرة، وهم أولو القوة، والشوكة، أقوى من الغرض الداعي لموافقة الأقلين المستضعفين والله الموفق‏(‏ص 120‏)‏‏.‏